فى بلاد الشام استقر مقام زيد بن عمرو عند راهب فى صومعته، فحكى له عن ألمِ الغربة التى يعيشها بين قومه، وقال له إنه أيضا لم يرتح للديانات السماوية الموجودة (اليهودية والمسيحية)، فقال له الراهب: «يا زيد إنك لتطلب دينًا ما يوجد اليوم أحد يدين به، وهو دين أبيك إبراهيم، كان حنيفا لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، كان يصلى ويسجد إلى هذا البيت الذى ببلادك، فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك فى بلدك من يأتى بدين إبراهيم الحنيفية، وهو أكرم الخلق على الله».
كانت البشارة واضحة وارتاح لها قلب زيد فعاد إلى بلاده قويا بأمله فى أن يلحق بهذا النبى، كان يتلمسه فى وجوه الكبار والأطفال وفى حكايات القادمين للطواف بالكعبة من قبائل بعيدة، وفى كتب اليهود والنصارى، فى ما يراه بعينيه حقا وفى الأحلام.
ترك زيد زمام أمره لفطرته، كانت تغيب الشمس فيستقبل الكعبة ليصلى ركعة وسجدتين، ثم يقول: «هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجرًا، ولا أصلى له، ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم الأزلام، وإنما أصلى لهذا البيت حتى أموت».
كان أثر النبى سابقا على ظهوره، وكان أن أشرقت أنوارٌ ما فى صدر زيد بفعل الانتظار، كانوا يسألونه عن حاله فيصمت، ثم اطمأن قلبه لـ(عامر بن ربيعة) فقال له: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل، ثم من بنى عبد المطلب، ولا أرانى أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبى، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه منى السلام، وسأخبرك ما نعتُه حتى لا يخفى عليك.
قال عامر: هَلمَّ! قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينه حُمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإنى طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكان مَن أسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبى غيره.. يا عامر فإن طال عمرك حتى التقيته فأقرئه منى السلام.
كانت أسماء بنت أبى بكر، رضى الله عنهما، تحكى عنه قائلة: لقد شاهدت زيد بن عمرو شيخا كبيرا، ظهرُه مسندٌ إلى ظهر الكعبة ويقول: اللهم لو أنى أعلم أىَّ الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكننى لا أعلمه، ثم يسجد طويلا.
(5)
هل كانت اختيارات صحبة زيد مماثلة؟
أما ورقة بن نوفل فقد ارتاح إلى المسيحية واستحكم فيها، واتبع كتبها من أهلها فى كل مكان حتى صار عالما من علماء أهل الكتاب، لحق ورقة بدعوة سيدنا النبى فى بدايتها، وكانت البشارة على يده عندما أخبرته السيدة خديجة بما جرى فى أول نزول للوحى على النبى فقال «قدوس قدوس.. لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، يقصد جبريل عليه السلام، وإنه لنبى هذه الأمة». ويقال إنه مات على المسيحية قبل أن تبدأ الدعوة للإسلام.
أما عبيد الله بن جحش فقد ظل يترقب طريق الهداية حتى لحق بالرسول فأسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، فلما وصل هناك واطّلع على المسيحية تنصّر، وظل يعيش هناك حتى مات مسيحيا.
أما عثمان بن الحويرث فقد استقر به المقام فى كنف ملك الروم، وارتاح إلى المسيحية وظل عليها وحسُن مقامه ومنزله عند ملك الروم حتى مات هناك.
أما زيد فقد عاد إلى الشام من جديد إلى الراهب الذى زاره من قبل، وكأنه يتعجل خبر ظهور النبى، فقال له الراهب: عد إلى بلادك فالحق بها، فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه.
(6)
كانت قريش تعانى من آثار الاضطراب الفكرى الذى بثه زيد فى عقول شبابهم، ولم يستبشروا خيرا بعودته من بلاد الشام، ففى كل مرة يعود إلى مكة أقوى من ذى قبل، فيستفز وجدان كثيرين يعبدون الأصنام على حرف، ويشيع أمر النبى المنتظر الذى سيقلب الموازين، ففكروا أن يتخلصوا منه.
فى طريق عودته من الشام وهو يمنِّى نفسه بلقاء النبى الذى أتى زمانه وجد نفسه محاطا بوجوه ليست غريبة عنه، وقبل أن يتعرف عليها كانوا قد أعملوا فيه سيوفهم.
بينما زيد يلفظ أنفاسه الأخيرة على الطريق إلى مكة، نظر إلى السماء قائلا: اللهم إن كنت حرمتنى من هذا الخير فلا تحرم منه ابنى «سعيدا».
كان دعاء هذا الرجل الذى مهّد الأرض أمام رسالة سيدنا محمد مستجابا، فكان (سعيد بن زيد) من أوائل المسلمين، وكان أنْ أصبح واحدا من العشرة المبشرين بالجنة.
(7)
فى غزوة بدر غاب سعيد بن زيد عن المعركة، لأن النبى كان قد أوكل إليه مهمةً ما بعيدة عن الميدان، فلما عاد زيد ووجد النبى والمسلمين منتصرين بدا على وجهه بعض الضيق من غيابه عن هذا الشرف، فكّر النبى فى أن يطيِّب خاطر سعيد، فأخذ النبى منه قوسه وضرب له سهما فأصبح كأنه قد شهد الغزوة.
ضحك سعيد وكان يقف إلى جواره عمر بن الخطاب، تبادلا النظر فى صمت، فانتبه لهما النبى يسألهما عما بهما، فقالا «أنستغفر لزيد بن عمرو»؟
صمت النبى ثم ابتسم قائلا: نعم.. فإنه يُبعث أمةً وحدَه.