فهمى هويدى يكتب | من يرى ضوءًا فليدلنا عليه
حذر تقرير أصدرته الأمم المتحدة فى جنيف من استمرار عمليات التضليل والدعاية والتحريض على الكراهية، بما قد يزيد من حدة التوتر فى البلاد، أضاف التقرير أن هناك حقائق على الأرض يجب وضعها للمساعدة فى الحد من خطر الروايات التى يجرى استغلالها لأسباب سياسية والتى تهدف إلى التحريض على الكراهية على أسس عرقية وقومية ودينية أيضا، وأوصى التقرير الأممى بضمان المساءلة عن جميع الانتهاكات لحقوق الإنسان التى حدثت أثناء الاضطرابات، ودعا إلى ضرورة مراعاة التوافق والمشاركة المتساوية فى الشئون العامة والحياة السياسية لجميع المواطنين، إضافة إلى منع وسائل الإعلام من التلاعب وإذكاء التعصب والتطرف.
الكلام ليس سوى مقتطفات من تقرير أصدرته المفوضية السامية لحقوق الإنسان فى جنيف عن الحاصل فى أوكرانيا، وكانت المفوضية قد أوفدت اثنين من الخبراء إلى «كييف» العاصمة للتحقق من المعلومات التى تسربت عن حملات التسميم والتشويه التى استهدفت إثارة البغض والكراهية إزاء الأقلية الروسية هناك، بعد التوتر الذى حدث بين البلدين وأدى إلى انفصال القرم وانضمامها إلى روسيا الاتحادية.
حين وقعت على التقرير وجدت أنه يصف الحاصل فى مصر بدرجة أو بأخرى، ذلك أن كل فقرة فيه تذكرنا بالأجواء المخيمة منذ شهر يوليو من العام الماضى، فكلمات التسميم والتشويه والدور السلبى لوسائل الإعلام والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان تمثل قواسم مشتركة بين التجربتين الأوكرانية والمصرية، وكنت قد أشرت يوم الخميس الماضى 3/7 إلى التشوهات، التى أحدثتها تلك العوامل فى الضمير المصرى، حتى أصبح كثيرون لا يجدون غضاضة، سواء فى وقوع ممارسات الانتهاكات والقمع، أو فى تبريرها والدفاع عنها. وهى الممارسات، التى سجلتها تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة فى مصر. كما انتقدها التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية، الذى صدر يوم الخميس 3 يوليو، ولا بد أن يلفت نظرنا فى هذا الصدد أن الأمم المتحدة قامت بالتحقيق فى انتهاكات حقوق الإنسان فى دول عدة، لكنها التزمت الصمت أمام ما يحدث فى مصر، رغم الانتقادات التى سجلتها بخصوص عدة منظمات دولية فى مقدمتها «هيومان رايتس ووتش».
الزاوية التى تهمنا فى اللحظة الراهنة تتعلق بعملية تسميم الأجواء المصرية التى أشاعت درجة عالية من الكراهية ورفض الآخر، الأمر الذى أزعم أنه صار يهدد التعايش والاستقرار فى البلاد. صحيح أن الإعلام يتحمل مسئولية كبرى فى تغذية تلك المشاعر السلبية، إلا أنه ما كان له أن يقدم على ذلك، إلا إذا كان ذلك تعبيرا عن توجهات سياسية، قام الإعلام بدور البوق الذى تولى الترويج لها وغسيل مخ الجماهير على النحو الذى يخدم تلك التوجهات ويحقق مرادها.
وإذا كانت السياسة هى المصدر الأساسى للكراهية، فإن النخب لعبت دورا لا يقل أهمية فى تشويه الضمائر وإفسادها. إن شئت فقل إن جهة القرار السياسى هى التى تحدد الموقف، فى حين أن النخب تتولى إخراجه وتبريره والتنظير له، أما الإعلام فهو أداة التوصيل التى تنقل كل ذلك إلى عموم الناس، وتستخدم كل وسائل الجذب والإبهار لإيصال الرسالة إلى أوسع دائرة ممكنة من الرأى العام. وهناك عناصر أخرى مكملة توفر الغطاء القانونى للسياسات المتبعة، أو الحشد الجماهيرى اللازم لإضفاء الشرعية الشعبية اللازمة لمساندة السياسات المرسومة.
إن التحدى الكبير الذى لا بد أن نواجهه يوما ما، يتمثل فى قدرتنا على تطهير ضمائر المصريين مما لحق بها من تشوهات ومرارات أفسدتها، ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بإقامة ديمقراطية حقيقية تحترم حق الاختلاف، وتحتكم إلى القانون فى حسم النزاعات، وتلتزم بالوسائل السلمية فى التغيير والتداول، وهذا الذى أقول به ليس اكتشافا ولا جديد فيه، ولكنه أشبه بالتذكير بالبديهيات المستقرة التى سقطت من الذاكرة فى أجواء الانفعال والحماس والتهييج السائدة.
أدرى أن ملف «الإرهاب» يشكل جدارا سميكا يقطع الطريق على أى حديث عن مستقبل يتحقق فيه الاستقرار من خلال الحلول السياسية والوئام المدنى، إلا أننى أزعم أن موضوع الإرهاب بات بحاجة إلى تفكيك وتحرير يهتدى بالوقائع الثابتة وليس بالهوى السياسى والتعبئة الإعلامية المعبرة عنه، ذلك أننا ما عدنا نعرف على وجه الدقة من الذى يمارس الإرهاب، ولماذا؟ وبين أيدينا نماذج عدة اتهم فيها طرف بالمسئولية عن بعض الحوادث الإرهابية، ثم فوجئنا بأطراف أخرى تعلن عن مسئوليتها، بل إننا ما عدنا نعرف المقصود بالمصطلح ذاته، بعدما وجدنا أن الذين عارضوا قانون منع التظاهر اعتبروا إرهابيين، وجرى التنكيل بهم وتوقيع العقوبات المشددة عليهم بسبب «جريمتهم»، وهو ما أقنعنا بأن الذين يلقى القبض عليهم يحاكمون بمقتضى السياسة، وليس بمقتضى القانون.
إن تطهير الضمير من الكراهية بات مرهونا بتطهير الأجواء من حملات التسميم والتحريض. وهذه الحملات باتت معلقة على القرار السياسى، الذى يبدو أنه لا يزال يراهن على قوة السلطة ومؤسسات الأمن والردع وهدف الاستئصال والاجتثاث، الأمر الذى لا يشجع على التفاعل الإيجابى من الطرف الآخر ولا يدع مجالا لرؤية بادرة ضوء أو أمل للاستقرار فى المستقبل، ومن يرى شيئا من ذلك القبيل، فإننى أرجوه أن يدلنا عليه.