كأن شيئا لم يكن
محمد ابو الغيط
يقول الضابط بكل ثقة لسامح المقبوض عليه في أحداث السفارة الأمريكية: «تشيل حسني ولا تجيب مرسي، إحنا اللي بنمشي البلد .. مش عايزك تقول الحقيقة، هتقول اللي أنا عايزه». ويقول البطل مصعب الشاعر بكل ثقة لمحمود سعد: «إحنا عارفين الظباط اللي عذبو بالاسم، ونقوله خليك كويس متعملش كده تاني ويلا ارجع اشتغل؟ … عشان أحقق عدل في البلد دي لازم كل واحد نفذ أمر ظالم يتحاكم، لأنه أعان الظالم».
ويقول الرئيس مرسي بكل ثقة لمذيع التليفزيون المصري: «الأمن اليوم يختلف عن الأمن منذ شهور .. وإنما صار أمنًا حريصًا على منع الجريمة قبل وقوعها، التدخل لفض الاشتباكات، المحافظة على الناس وحرية الرأي، عدم التدخل في تكميم الأفواه».
يتحدث الضابط بثقة الأمر الواقع، ما زال في نفس مكانه يرتكب نفس أفعاله، ويشعر بأن «هيبة الشرطة» بدأت تعود.
يثق تماماً في عبارته كثقته في أنه يرى بعينيه الإصابات على وجه وجسد سامح، بعد أربعة أيام من التعذيب في معسكر الأمن المركزي ثم قسم قصر النيل.
ويتحدث مصعب بثقة من اقترب فرأى «أنا حاسس بكل شهيد مات، وبكل مصاب اتعور»، يثق في كلامه كثقته في الله الذي يدعوه كل يوم في صلاته «اللهم انصر الثورة».
أما ثقة الرئيس مرسي واليقين الذي يتحدث به عن تغير الداخلية الآن، فلا أجد له تفسيرًا!.
بلاد الانفجار الكبير
في عام 2003 حدث الانفجار في جورجيا.
حدثت ثورة أدت لإسقاط الرئيس الفاسد، وانتخاب الرئيس الثوري، ميخائيل ساكاشفيلي، الذي كان من أول قراراته أن عهد إلى شابة عمرها 27 عامًا، درست الحقوق والصحافة وعملت في منظمات المجتمع المدني ومؤسسات دولية، بمنصب مهيب وهو «نائبة وزير الداخلية».
إيكاترينا زولادزه قررت ببساطة وتلقائية أن تفصل 18 ألف شرطي في يوم واحد!
كان قرارًا صعبًا وكنا خائفين.. كانوا مسلحين ويعرفون بعضهم بعضًا، كما كانت لديهم علاقات بالمجرمين والخارجين على القانون، لكن في الوقت نفسه كان يجب التخلص منهم.. الأمر تم بسرعة شديدة، فلم نعطهم وقتًا للحشد والتعبئة ضدنا».
ولم يقتصر الأمر على فصل الضباط فقط:
«ألقينا القبض على 1000 شرطي، والمئات من وكلاء النيابة والقضاة وأعضاء البرلمان، واثنين من نواب الوزراء، وعدد كبير من المحافظين.. إذا لم تكن الحكومة الجديدة مستعدة لاتخاذ قرارات جريئة وتنفيذها حتى النهاية، لا يمكنها أن تطمح لنيل دعم الشعب».
بدأت فورًا خطة لإصلاح الشرطة، تم دمج بعض هيئاتها وفصل بعضها، تم تغيير المناهج الدراسية بأكاديمية الشرطة لتخريج جيل جديد مختلف تماماً عن سابقة.
تم الإعلان عن وظائف شاغرة في الداخلية، فتقدم آلاف المواطنين العاديين الذين خضعوا لاختبارات بدنية ونفسية ومقابلات شخصية «المعيار الأهم هو أن يكون لدى المتقدم الرغبة في أن يخدم الآخرين، وليس أن يخدمه الآخرون».
منذ أسبوعين تقريباً تم الكشف عن فيديو يظهر واقعة تعذيب في أحد السجون.. ولأنهم يعيشون في بلاد الانفجار الكبير العجيبة، حدثت احتجاجات شعبية أدت لاستقالة وزير الداخلية فورًا، وتم تعيين إيكاترينا مكانه.
قامت النيابة باعتقال عشرة عاملين بوزارة السجون على ذمة التحقيق، منهم نائب الوزير ومدير السجن.
ألمانيا الشرقية كان لها انفجارها أيضاً
كان جهاز الأمن السياسي «ستازي» رهيباً مهيباً، يعمل به حوالي 90 ألف ضابط وموظف، ومعهم نحو ربع مليون متعاون «مخبر».
تم انتخاب جواشيم غاوك، كاهن الكنيسة الكاثوليكية المعارض نائباً في برلمان ما بعد الثورة عام 1990، وتم اختياره مفوضاً خاصاً للحفاظ على سجلات ستازي الهائلة، لينال لقب «رجل الملفات».
تم تعديل قوانين سرية الوثائق، وأدار «غاوك» برنامجاً ينص على أن من حق كل مواطن له ملف بالجهاز أن يتسلم ملفه كاملاً ليقرأه بنفسه، وفي هذا الملف قد يجد أسماء من تجسس عليه من المتعاونين أو من اعتقله أو عذبه من الضباط، ويحق له رفع دعاوى قضائية ضدهم.
أدخل «غاوك» قاعدة جديدة في تولي أي مسؤول لأي منصب رسمي في ألمانيا: «يجب أن يتم الكشف عليه في ملفات ستازي، للتأكد من أنه لم يكن متعاوناً في أي وقت».
على خطى ألمانيا الشرقية، صدرت قوانين شبيهة تنظم التعامل مع ملفات البوليس السري في تشيكوسلوفاكيا عام 1993 وفي المجر عام 1994 .
****
يقول مصعب، بينما تعبير الجزع والتأثرعلى وجهه: «حصلت في الميدان جريمة. انت شايف ظابط الجيش والجندي.. بيعري البنت وبيضرب أهه. أين الحكم بعد شهور؟».
ويقول الرئيس مرسي بكل هدوء: «القوات المسلحة قامت بدور عظيم في الحفاظ على الثورة.. أدارت المرحلة الانتقالية وتحملت الكثير في إدارتها وحمت هذه المسيرة».
***
بلاد «الفسسسسس»الكبير!
ما هي ردود أفعال الشعب المتوقعة في بلاد الانفجار الكبير لو طالعتهم صحفهم بعد الثورة بخبر مخجل من نوع: «مجلس الشعب يتمسك بهيكلة الداخلية والوزارة ترفض»؟!.
ماذا لو قالوا لهم أن رئيس الجهاز الذي أفسد وتجسس وعذب وانتهك وقتل، يحاكم بتهمة وحيدة مضحكة هي «إتلاف أوراق رسمية؟».
في بلادنا كل شيء يتصاعد في موجة هائلة تصل بالمشاعر والحماس والآمال إلى السماء، ثم ينتهي كل شيء فجأة، وينسى الجميع وينشغلون في أمر آخر.
هذا هو ما يفسره أحد أصدقائي- الذي كفر بالثورة الآن- بنظرية «الفسسسس الكبير» التي تعكس نظرية الانفجار الكبير التي يرجع لها العلماء نشأة الكون.
ينطبق هذا على كل شيء في مصر تقريباً، كملفات استعادة الأموال المنهوبة، ومحاكمات الفاسدين أو القتلة، والتطهير من الفلول، والعدالة الاجتماعية، و … إصلاح الداخلية.
في عهد غضب الإخوان على حكومة الجنزوري ثار مجلسا الشعب والشورى من أجل إعادة هيكلة الداخلية، تم عقد الكثير من الاجتماعات وورش العمل التي شارك بها باحثون وخبراء، ومن نتاجها أخرج مركز النيل للدراسات كتابًا كاملاً بعنوان: «كيف يتم إصلاح جهاز الأمن»، وبدا أن مصر ستخرج «إيكا» و«غاوك» الخاصين بها.
ثم ماذا؟ لا شيء.
إنه «الفسسسسس» الكبير، كأن شيئاً لم يكن.
لكن مصعب وأمثاله خارجين على هذه القاعدة تماماً.
مصعب العائد من رحلة علاج طويلة للغاية طيلة العام والنصف الماضيين، لم يتلوث بسياستنا وأحزابنا وخلافاتنا، لم يتم تدجينه بمعارك الدستور والانتخابات، لم يتحدث مطلقاً عن هذه الأمور، ولم يذكر الإخوان جماعة والده نائب مجلس الشعب بكلمة واحدة.. فقط تحدث عن فطرة الثورة الأولى.
***
يقول الرئيس مرسي: «أنا لا أريد إجراءات استثنائية تنسب إلى هذه المرحلة في التاريخ».
ويقول مصعب الشاعر: «حسن عبد الرحمن رئيس الجستابو يطلعوه براءة؟! أي عدل على الأرض دي؟ أي عدل على السما دي؟ أي أوراق بتتكلم عليها وجسمي وإيدي الأوراق، وعين حرارة الأوراق، ورصاص مرام الأوراق».
في انتظار «العركة»القادمة
خلال الأسبوعين الماضيين تم تسجيل الكثير من انتهاكات الداخلية، يمكن تصنيفها بشكل عام إلى نمطين متكررين.
ما الذي يجمع تعذيب معتقلي السفارة الأمريكية، مع أحداث ميت غمر، التي بدأت بصفع ضابط لامرأة على وجهها أثناء حملة أمنية، ثم تعذيب عاطف المنسي حتى الموت لمجرد تجرؤه على الذهاب للقسم لعمل بلاغ ضد هذا الضابط، مع تعذيب محمد فهيم في المنصورة لمجرد تجرؤه على رفض شتيمة الضابط له بأمه، مع تعذيب محمد عزام في سوهاج حتى الموت لنفس السبب بالضبط؟.
إنه «استعادة هيبة الشرطة»، ومصطلح «الهيبة» عند السادة الضباط يعني «إرهاب الناس» وكسر نفوسهم وسحق مقاومتهم.
الداخلية التي تهيمن عليها عقلية «إحنا أسياد البلد»، كما قال اللواء أبو قمر، لا يمكن أن يقبل رجالها بإرادتهم أن يتحولوا من آلهة تتحكم بمصائر العبيد إلى مجرد موظفين عاديين.
الطبيعي والمنطقي أن يسب رجال الشرطة المواطنين في شرف أمهاتهم، والغريب المذهل هو أن يرفض أحدهم ذلك!.
لهذا تتم ممارسة أقصى قدر من العنف عند أدنى محاولة لكسر هذه العلاقة بينهم وبين عبيدهم، عقلية «العركة» التي تحدثت عنها في المقال السابق هي الأساس، ليس القانون أو الواجب بل فقط القوة البحتة.
النمط الآخر من انتهاكات الداخلية هو عنف الشرطة المنهجي للحفاظ على النظام القائم بانحيازاته السياسية والاقتصادية، في يوم واحد تم فض اعتصام السائقين بموقف المرج واعتقال رئيس نقابتهم المستقلة، وتم فض اعتصام طلاب جامعة النيل، واعتقال خمسة منهم، وتم فض اعتصام عاملات التشجير أمام وزارة الزراعة.
كأن هناك صفقة غير مكتوبة تسمح بالحفاظ على الداخلية القديمة، لا محاكمات ولا تغييرات، وفي المقابل تدعم الشرطة سياسات النظام القائم، وأيضاً تعود جزئياً للقيام ببعض عملها في الأمن الجنائي بعد أطول إضراب فئوي في تاريخ مصر، وإن كان هذا بنفس الوسائل القديمة التي تعتمد على مفهومهم الخاص لهيبة الشرطة لا هيبة القانون.
يقول أينشتاين إن «السذاجة هي أن تفعل نفس الشيء بنفس الطريقة ثم تتوقع نتائج مختلفة».
استمرار نفس السياسات الاقتصادية والأمنية التي أدت لانفجار الشعب وانتصاره في «عركة» 28 يناير، بل استمرار نفس الأشخاص- وأولهم وزير الداخلية الحالي نفسه- يجعل نفس «العركة» قابلة للتكرار يوماً ما على نطاق أوسع لا يعلم مداه إلا الله.
يقول مصعب الشاعر:
«أنا لا أؤمن بسياسة ونظام.. كل ده هجص.. لا أؤمن إلا بتغيير حياة الناس الحقيقية».
«هأقول الثورة نجحت لما الفقير يقدر ياكل، ولما المريض يلقى علاج، ويلاقي سرير في المستشفى، مش يبيع كليته.. لما البنت اللي اتعرت اللي عمل فيها كده يتحاكم».
المصدر: الشروق