تبادلن النظر اليها وهي تدخل الحارة, بخطاها الثقيلة, وبطنها المنتفخة, واثدائها المتدلية تكاد تلمس الأرض الموحِلة. كن متحفزات لإقترابها وفي ايديهم العصيان والأحجار لطردها؛ يخشين النجاسة وهجر الملائكة، حاولت الإحتماء من الأطفال بالبيوت المفتوحة ابوابها. كانت تخرج لاهثة وهي تعوي مستغيثة، دامية عليها اثار العصيان.
انتِ وحدكِ اشفقتِ لحالها وعطفتِ عليها، أمّنتيها وافترشتي لها مكاناً في حوش بيتك بقطعة من الكليم القديم فوق البلاط البارد الباهتة رسومه، ولم تنس ان تضعي لوح الأبلكاش مُسنَد على الحائط ليحول دون نَشع رطوبة الجدار عليها، حتى وضعت حملها وأطعمتيها من طعامك.
نسوة الحارة لم يتعجبن من مسلكها نحوَكِ؛ لم يرين ثمة فارق بينك وبينها
هن دوماً يتلصصن عليك ويتغامزن ويحسدنك على سمو روادك؛ الذين يأتينك بعد منتصف الليل. حتى انفعلت يوماً إحادهن ذات نهار، وهي تحدث جارتها في النافذة المقابلة، كانت تشيح بيدها وصدرها يرتج ” كل زباينها نضاف .. ولاد ناس وافنديات .. ده حتى طلبة المدارس مسابتهومش .. واحنا مالناش غير القهوجية وعُمال الوِرَش .. ده غير انها شغالة من رخصة “
في الليلة الأخيرة لم تسعهن فرحتهن وهن ناظرات شامتات في شرفات ومداخل البيوت يزغردن ملء افواههن وهي اشبه بالفروج المترهلة، والبوليس يسأل عن بيتك إحداهن، فتشير اليه؛ فيقتحمه ويركل احدهم الكلبة، ويطوحها تحت بير السلم، ويدهس آخر صغارها، العساكر ذوي الطرابيش الداكنة يوسعونك ضرباً ويقيدونك ويدخلونك عنوة في سيارة بلا ارقام، وتمضي مسرعة نحو شارع الترام، مخلفة وراءها غبار اسود كثيف، ذاب داخله أطفال الحارة بجلابيبهم الممزقة وهم ويزفونك. انشق الغبار عن عوائها وهي تجري خلف السيارة، تسبق صغارها.
في صبيحة اليوم التالي لم يكن الضابط المحقق يجري أسئله مألوفه، بل لم تعرفين رتبته من ملابسه الملكية، ولم تتبيني هوية المكان؛ أنه ليس القسم ولا المديرية؛ الغمامة السوداء حالت دون رؤية الطريق. كان يسألك عن اشياء شتى، كتبك .. جرائدك .. قصائدك .. اقاربك .. عن اسماء وعناوين زائريكِ، واخرج من درج مكتبه رزمة ورق كبير منسوخ، والقاها أمامك، وواجهك باحرازك وأملى تهم عديدة على سكرتيره، منها اثارة للتمرد والسخط، ومهاجمة الإنجليز، والسخرية من السرايا. وهو يكتب عنك دون ان تتفوهي بكلمة. جذبك من غطاء رأسك وملابسك وصفعك عدة مرات؛ كي ينتزعُ منكِ اعترافاً، ثم سبك وتركك وخرج. أدرتِ وجهك ناحية الباب المفتوح بعد خروجه، وانت تمحين عن وجهك بيداك المقيدتان ما استطعت من خليط الدماء الدافئة والدموع المالحة لمحتِ لافتة (قلم البوليس السياسي) – اسندت رأسك المجهدة على النافذة التي قيدوك بقضبانها.
كانت تنظر اليكِ وتلهث، واقدامها الأمامية تتشبث بالقضبان.