محمد خير

فى أحد لقاءاته التليفزيونية العديدة تحدث الشيخ حازم أبو إسماعيل عن مدينة أمريكية تمنع المواطنين من المشى فى الشوارع بثياب الشاطئ. ليس أبو إسماعيل ولا الشاطئ موضوعنا اليوم، لكنى لا أستطيع منع نفسى من تذكر هذا اللقاء كلما دار نقاش حول الحرية، فأفاجأ بالعدد الكبير من الناس الذين خصصوا حياتهم للتنقيب عن مقاطعة فرنسية تمنع تربية القطط أو قرية إيطالية تجرّم الشاى بالحليب، معظم هذه الأخبار -إن صحّت- تأتى عادة ضمن أبواب الأخبار الطريفة فى الصفحات الأخيرة للصحف أو فى برامج المنوعات، لكنها فى بلادنا تتحول إلى حجج راسخة تقطع بلا أى شك بأنه «لا وجود للحرية المطلقة»، بدليل أنهم حتى فى الدول المتقدمة يمنعون كذا وكذا، ودعك من أننى بحثت بلا جدوى عن أى علاقة بين منع تربية الحيوانات الأليفة أو منع ارتداء السراويل الساقطة، وبين تقييد حريات الاعتقاد والرأى والتعبير، ودعك أيضًا من أننى لا أفهم اتخاذهم أوروبا والدول المتقدمة حجة وقدوة ونبراسا، فقد كنت أظن أن هذه الدول نفسها هى «دول الانحلال» التى «تعادى الإسلام والمسلمين»، دعك من ذلك، وتخيّل معى رجلا يسير فى الشوارع بين الفقراء والمتسولين والباعة المتجولين، ويصرخ فيهم عبر مكبر صوت، محذرًا إياهم من مفاسد الثراء ومخاطر التخمة، هذا هو حالنا بالضبط عندما نتعثر بكل هؤلاء الذين تزعجهم كلمة الحرية ومرادفاتها فلا يفكرون إلا فى كيفية تقييدها، فى بلد يُسجن فيه الناس بسبب نكتة على «فيسبوك»، وتحقق فيه النيابة مع طفلين بتهمة ازدراء الأديان ويُحاكم فيه الإنسان بتهمة إهانة الرئيس، يبدو الخوف من «الحرية المطلقة» أقرب إلى الطرائف التى بدأنا بها المقال، لكنها طرفة واقعية للأسف، وليس فيها غرابة، فالإنسان عدو ما يجهل ونحن لم نعرف الحرية أبدًا.
حقا إن «الناس على دين ملوكهم»، فأنت قد تكون قضيت حياتك معارضا أو رافضا لنظام مبارك، لكنك مع ذلك تحمل نفس مخاوفه، تخشى المد الشيعى والتمويل الأجنبى والإضرابات العمالية والاحتجاجات الفئوية إلى آخر القائمة الطويلة التى طالما أحالت المتهمين إلى نيابة أمن الدولة، والأغرب أنك قد تكون ثُرت لأجل الحرية، لكنك مع ذلك لا تقبل بحرية الاعتقاد أو إلغاء الرقابة، تصرخ فى وجهى «يعنى إيه إلغاء الرقابة؟ يعنى اللى عايز يعمل حاجة يعملها؟»، ثم تلقى فى وجهى بعبارتك الأثيرة: «مافيش حاجة اسمها حرية مطلقة». وهذه العبارة الأخيرة هى ما أود أن نتحدث عنه قليلا:
تُرى هل اخترت أن تكون مصريا؟ هل اخترت مدينتك؟ قريتك؟ أو حتى شارعك أو المستشفى الذى ولدت فيه؟ هل اخترت أبويك؟ عائلتك أو أسرتك؟ هل اخترت أن تكون ذكرًا أو أنثى؟ أن تولد مسلمًا أو مسيحيا؟ هل اخترت تاريخ ميلادك أو وفاتك؟ هل اخترت صحتك أو مرضك؟ هل اخترت كفاءتك العقلية؟ ذكاءك أو غباءك؟ هل اخترت مواهبك أو انعدامها؟ هل اخترت أوضاعك الاجتماعية؟ هل اخترت الطبقة التى تنتمى إليها؟ فقرها أو غناها؟ هل اخترت ظروف نشأتك؟ فرصتك فى الحصول على التعليم ونوعه من عدمها؟ هل اخترت قدرتك على الإنجاب أو غيابها؟ هل اخترت شكلك؟ لونك؟ وسامتك أو قبحك؟ هل اخترت طولك أو قصرك أو بنية جسدك؟ هل اخترت خفة ظلك أو ثقل دمك؟ هل اخترت تركيبتك النفسية؟ نوازعك العاطفية؟ ميولك الجنسية؟ مواهبك الاجتماعية؟
فى الواقع يمكننى أن أستمر فى طرح هذه الأسئلة إلى الصباح التالى، لكنى أتوقف هنا لأسئلك: تُرى، أى حرية تتبقى لك بعد استبعاد كل ما سبق من عوامل ليس لك أى قدرة على التحكم بها؟ لكنها تكاد تتحكم بك تمامًا، إن ما يتبقى لك من حرية بعد استبعاد كل ذلك قليل جدًا، وحتى هذا القليل، تنازعك فيه الدولة ورجال الدين والمجتمع والتقاليد وحدود الآخرين، وظروف الاقتصاد ومعدل البطالة والقوانين المتشابكة، ما يتبقى لك بعد كل ذلك لا يكاد يملأ كف يدك، ومع ذلك فأنت تنظر إلى ما فى كفك وتصرخ خوفًا من «الحرية المطلقة»!
خلال رحلة التطور البشرى أدرك الإنسان هذه الحقائق، فحاول جهده أن يرفع القيود عن هذا القدر القليل المتبقى من حرية الإنسان، خصوصًا حرية القول والاعتقاد. حقه أن يؤمن بما وبمن يريد، وحقه فى أن يعبّر عما يجول بخاطره من أفكار. إن ما يفصلنا عن العالم المتحضر ليس مئات السنين، بل قرار واحد: أن لا يُحاكم إنسان بسبب رأيه أو عقيدته مهما كان، هل ستذكرنى -كالعادة- بقانون إنكار الهولوكست فى فرنسا، ومن قال لك إننى معجب بذلك القانون؟ ومع ذلك أذكرك بالقاعدة الشهيرة: النادر لا حكم له.
عزيزى الخائف اطمئن، الحرية المطلقة كالعدل المطلق والخير المطلق، لن يصل إليها الإنسان أبدًا، لكن واجبه أن يسير فى الطريق.
المصدر: التحرير