مجموعة سعودي القانونية

معتز بالله عبد الفتاح يكتب | شعبٌ هذه حكوماته.. وحكوماتٌ هذا شعبها.. أين الخلاص؟

معتز بالله عبد الفتاح يكتب | شعبٌ هذه حكوماته.. وحكوماتٌ هذا شعبها.. أين الخلاص؟

معتز-بالله-عبد-الفتاح

أعتقد أن قطاعاً من مجتمعنا دخل فى حالة من الاكتئاب الحاد وفقدان الأمل بما يفضى إلى ميول انتحارية واضحة. ويساعد على ذلك كثرة الخَلق (أى البشر)، وندرة الخُلق (أى الأخلاق).

كل ما أراه فى مصر خلال الفترة الأخيرة يؤكد أننا نتعامل مع الدم المصرى وفقاً لقواعد التبادل الرأسمالى المادية فى أسوأ أشكالها: كلما زاد المعروض، قلت القيمتان الذاتية والتبادلية. بعبارة أخرى، كلما زاد عدد المصريين، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وأخلاقهم، فأصبحنا نتعامل مع أنفسنا وشركائنا فى الوطن وكأنهم عبء من الأفضل التخلص منه بادعاء النضال من أجل قضية مقدسة أحياناً، أو بتعمد إهمال أن نساعدهم حين يحتاجوننا أحياناً أخرى.

جعل الله من قيمة النفس الواحدة وكأنها تساوى الناس جميعاً. قال تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا».

ولكننا لا نلتزم بهذا المنطق.

يموت أربعون مصرياً احتجاجاً على حكم أول درجة بإعدام عشرين فى حادثة بورسعيد. مات الأربعون، وغالباً لن يموت العشرون. ويكون السؤال: من قتل هؤلاء؟ هل هم ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة؟ هل كلما أصدرت محكمة حكماً لا يعجبنا، ندخل فى معركة مع قوات الأمن؟ وماذا لو أصبح هذا هو منطق كل المصريين فى كل القطاعات والمحافظات؟ إذن لماذا نريد الدولة أصلاً؟ والدولة نفسها بحاجة إلى إصلاحها، ولكن إصلاحها مسألة ديمقراطية وتكنوقراطية وبيروقراطية معقدة، ولن يحقق هذا الإصلاح الاحتجاج عليها وتدمير منشآتها ومهاجمة القائمين عليها. هذا كمن يصلح السيارة بأن يمسك شاكوشاً ويضرب كل جزء من أجزائها عشرات المرات. ولكن مَن يفهم هذا الكلام فى بيئة شديدة التشكك فى أى شخص والرفض لأى رأى لا يتطابق تمام الانطباق مع التحيّزات المسبقة للمتلقى؟

ولنطل على مشهد آخر لا يقل دموية. يموت المئات من أجل عودة شرعية رئيس فاشل وقع فى كل فخ، وتجاهل كل نصيحة، وضيّع كل فرصة. ويقيناً لن يعود من ماتوا ولن يعود الرئيس الفاشل وجماعته التى تضحى بأغلى أبنائنا من أجل صرف النظر عن أخطائهم.

أذكر حواراً دار بين اثنين من دارسى ظاهرة الإسلام السياسى، كان أحدهما شديد الانفعال على الآخر، لأنه لم يكن متحمساً للحالة «النضالية»، وفى قول آخر «الانتحارية»، التى يعيشها الإخوان ومناصروهم بعد الثالث من يوليو، وبدأ يصفه بالتخاذل، وبأنه ساكت عن الحق، وبالتالى هو شيطان أخرس، وأنه يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف وهكذا.

فكان رد الآخر بأننا «مجتمع لديه ميول انتحارية»، وأنه من الناحية الشرعية يظل هناك باب معتبر لرفض إلقاء الناس بأيديها إلى التهلكة، وأن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، وكان القياس الذى استخدمه هو الآية الكريمة التى جاءت فى سياق أهل الكهف الذين كان عليهم، بعد سنوات من النوم المشابه للموت، أن يبدأوا الحياة مرة أخرى، فقال أحدهم: «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا». صدق الله العظيم.

والمعنى أن يذهب أحدهم لشراء الطعام ولا يثير جلبة، لأن أهل المدينة إن عرفوا بهم سيجبرونهم على العودة إلى دين غير دين الحق ولن يفلحوا أبداً. وعادة ما تستخدم الآية فى سياق التدليل على أن التفاوت فى موازين القوى من القواعد المعتبرة فى السياسة الشرعية. ومثلها مثل الآية الكريمة التى يقول فيها الحق سبحانه لبنى إسرائيل: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ». وكأن المعنى أن على سيدنا موسى أن يأخذ فى اعتباره أن قوم فرعون من القوة (بل الإجرام وفقاً لنص الآية) بما يعنى أنهم لو اتبعوهم لفتكوا بهم، وبالتالى من الحيطة واعتبار موازين القوى ما يجعلهم يتخفون «ليلاً» مع أن قوة الله وحوله كفيلة بأن تحميهم فى وضح النهار. لكنها الحكمة، حكمة الأخذ بالأسباب، يعلمها الله لخير الدواب، وليس لشر الدواب، لأن «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ». صدق الله العظيم.

ورغماً عن رفضى القياس المباشر على أىٍّ من الحالتين السابقتين، فإن من الواضح أن هناك مِن بيننا مَن إن أراد أن يختار بين البدائل المختلفة، غلبت عليه ميوله الانتحارية والتصادمية، لأنه بهذا «يشفى غليله»، وليس لأنه سينتصر من الناحية الفعلية.

وهو ما يذكرنى بقول نابليون بونابرت: «السياسى الذى لا يعرف مواضع الخطر يصبح هو نفسه أحد مصادر الخطر». والحقيقة أننا أصبحنا حقلاً متنقلاً للألغام الخطرة على أنفسنا وأهلينا وبلدنا وديننا، إلا من رحم ربى.

والقضية ليست فى صراعات السياسة فقط. فى مصر يموت سنوياً 23 ألف مواطن فى حوادث الطرق، وهو رقم مفزع يجعل مصر الأولى فى العالم من حيث خطورة المواصلات. وبالمناسبة هذا الرقم أعلى من شهدائنا الذين ماتوا فى كارثة 1967. بعبارة أخرى، ومن الناحية الإحصائية، نحن قتلنا بأنفسنا خلال أربع سنوات أكثر مما قتلت إسرائيل منا، فى كل حروبها معنا.

وفى نفس هذا السياق تأتى كارثة شبابنا الذين ماتوا فى سانت كاترين، ويأتى السلوك غير المفهوم للألتراس الذى يأبى أن يغادر أى مناسبة إلا بمزيد من الجراح والدماء. ونقرأ بالأمس القريب عن موت أربعة أشخاص فى واقعة أخذ بالثأر فى أسيوط.

ونظل نتقاتل لأننا نتصارع على حطام الدنيا رافعين شعارات نحسبها مقدسة أو نبيلة، وهى بعيدة كل البعد عن القداسة أو النبل هى منطق النفس الإنسانية التى تسىء وتظلم وتضل وتحسب أنها تحسن صنعاً.

أعلم أن الثورة هى قمة الصراع السياسى. ولكن الصراع السياسى الشرس يدمر شيئين: الأخلاق والقانون.

الأخلاق هى عماد المجتمع، والقانون هو عماد الدولة.

استمرار الصراع سيدمر ما بقى من الأخلاق وسيدمر ما بقى من القانون. والمؤشرات واضحة، الأجيال اللاحقة علينا ستتفوق علينا فى سوء الأخلاق وعدم احترام القانون.

أعلم أن قوانيننا تحتاج إلى إصلاح، وأخلاقنا تحتاج إلى تقويم. ولكن ما يحدث الآن هو تدمير لفكرة الأخلاق وتدمير لفكرة القانون أصلاً، وليس إصلاحاً لأى منهما.

الانتقاد الشديد للحكومات المتعاقبة يختزل مشكلة معقدة فى جزء مهم، ولكنه مجرد جزء من المعضلة الأكبر. سوء أداء الحكومة يعكس مشاكلها الذاتية، ولكن مشاكل المجتمع الذى يعانى من مشاكل خاصة به أيضاً. نحن مطالبون باختراع أو اكتشاف حكومة أرقى من شعبها، وهى معضلة ليست سهلة، لأن العملات الرديئة قادرة بامتياز على طرد العملات الجيدة من ساحة العمل العام، وفى القلب منه العمل السياسى، وفى القلب منه العمل الحكومى.

فى مجتمع آخر، كنت سأطالب الرئيس القادم بتشكيل مجلس أعلى للأخلاق، لكن من سيكنون سيكونون أعضاءه؟

كل ما أتمناه فى الفترة القادمة من كل مصرى أن يرفع شعار: أخى، أرجوك لا تقتلنى عمداً أو إهمالاً. وربما يكون هذا كافياً مؤقتاً.

 

 

 

 

 

المصدر:الوطن