أحد أندية القاهرة دعانا لمحاضرة مغلقة مع شباب النادى وشرفنا بالحضور عدد من أهلهم وذويهم أيضاً. وجرى الحوار حول السياسة بكل أوجاعها ومشاكلها ومصاعبها. ولكن كعادتى أحاول أن أستخدم تشبيهاً كوميدياً هنا أو هناك عساه يروِّح القلوب ويبسط المعنى. وفى مرحلة الأسئلة والإجابات، وقفت آية، وهى طالبة فى إحدى الجامعات الخاصة، لتتساءل: كيف يمكن لنا أن نتحدث بكل هذه البساطة والناس تعيش فى كل هذه التعاسة؟ أفاضت فى توضيح مشاعر الغضب والحنق بل واليأس المسيطر عليها.
ولأننى ممن يحبون القراءة فى علم النفس واعتدت تدريس مقرر «علم النفس السياسى» ثم توسعت قليلاً فى حقل معرفى جديد تحت عنوان «الذكاء العاطفى»، فقد تفهمت أن ما تقوله يعبر عن صراع مبادئ ومشاعر وتضارب معلومات ومصالح فى ذهنها. فما كان منى إلا أن سألتها عدة أسئلة فتحت باباً لنقاش أوسع مع عدد أكبر من الحضور. وفجأة تحول النقاش من الحديث عن السياسة إلى حديث عن النفس الإنسانية بكل ما تحويه من متاعب ومشاكل، استمتع به الحضور وربما يكون أفادهم أيضاً.
وكانت أسئلتى لآية ثلاثة، وهى عادة الأسئلة التى أسألها لنفسى حين أجد الوقت للاختلاء بنفسى:
أولاً: هل كان بإمكانى أن أفعل شيئاً لم أفعله لوقف التعاسة التى يعيش فيها الآخرون ولم أفعله؟
ثانياً: هل أنا محاط بأشخاص يساعدوننى على أن تكون رحلة حياتى أفضل وأنجح وأسعد؟
ثالثاً: هل ساعدت أو أسعدت شخصاً واحداً على الأقل بشكل دورى؟
وهى حقيقة دعوة منى لكل إنسان يشعر بالضيق والتعاسة أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ويكون أميناً فى الإجابة عنها، وكل إنسان أعلم بنفسه وبظروفه المحيطة.
بالنسبة للسؤال الأول: أعتقد أن قطاعاً واسعاً من المصريين يحمّلون أنفسهم فوق ما يطيقون، ويتصورون أنهم كانوا يستطيعون أن يغيروا القدر الذى هو مكتوب منذ الأزل، قال تعالى: «مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلا فِى أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ».
حين فسر ابن رشد هذه الآية الكريمة، وهو فى تقديرى أفضل من تعامل معها بلغة العقل والمنطق، وضع الأمر فى سياق عقلانى يمكن لى أن أبسطه بأن «سيناريو» الكون قد كُتب بعلم الله، لأن الله خالق الكون يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما ربما قد يكون.
البعض يتساءل: لماذا نحن إذن محاسبون أمام خالقنا ما دام الله قدر الأقدار قبل بدء الخلائق؟ لماذا هناك جنة ونار ما دمنا مجرد قطع شطرنج فى يد القدر؟
تقديرى أن 99 بالمائة مما فى الكون مسيَّر بإرادة الله، و1 بالمائة اختيارى بإرادة الله فى يد البشر. والحمد لله أن هذه النسبة البسيطة هى التى نحن مخيرون فيها، وإلا كنا أفنينا الكون من زمن.
مثلاً: أنا لم أختر أن أكون مصرياً، ولم أختر أبى أو أمى، أو جنسى. لهذا فإن الله (سبحانه وتعالى) لن يحاسبنى على أننى ذكر أو أنثى أو على طولى أو على لون بشرتى، كما أن الله لن يحاسب عموم البشر على وجود جبل المقطم حيث هو. هذا كله يدخل فى إطار الـ99 بالمائة التى هى بإرادة الله وحده. لكن الله (سبحانه وتعالى) بإرادته أيضاً ترك لنا نحن البشر أن نختار الـ1 بالمائة الذى فيه نستغل ما أعطانا الله من قدرات ومواهب وإمكانات. إن أحسنا فلأنفسنا وإن أسأنا فنحن مسئولون عنها أمام الناس (وهذا هو القانون)، وأمام الله (وهذا هو الثواب والعقاب).
لذا كنت كثيراً ما ألخص فهمى لهذه العلاقة المتوترة بين الجبر والاختيار (أى ما نحن مجبَرون عليه وما نحن مختارون فيه) بهذه العبارة: «إنك قد تلقى بنفسك فى البحر بإذن الله، ولكن الله ينجيك، إن شاء، بجهدك».
نلاحظ الفاعل فى عملية إلقاء نفسك فى البحر، هذا أنت، أنت الذى ألقيت بنفسك فى البحر، ولكن هذا ما كان ليحدث إلا بأن الله سمح لك بهذا، أنت أردت الانتحار، وهو لم يمنعك، ولو شاء منعك لفعل (سبحانه وتعالى)، ولكن إن أردت النجاة، فعليك الجهد، ولكن إياك أن تتصور أن جهدك أنقذك، لأنه كم من مجتهدين فى السباحة ولكنهم غرقوا!
إذن، فلنخفف على أنفسنا قليلاً، فإرادة الله ليست حاصل إرادات البشر، والله (سبحانه وتعالى) قال لنا أين طريق الحق وأين طريق الضلال، وترك للناس كل الناس أن تختار، المهم ألا تكون أنت طرفاً فى هذا الضلال.
لذا أنت محاسب فى الكون عما يدخل فى دائرة تأثيرك، وليس عما يدخل فى دائرة اهتمامك. فى عالم التواصل السريع، نحن مهتمون بأخبار كثيرة تأتى من المشرق والمغرب، ولكن الذى نحن مسئولون عنه هو ما نستطيعه، ولو أن أغلبنا فرَّغ نفسه وطاقته لمجال تخصصه الأصلى أو لعمله الذى يقتات منه وأبدع فيه وحقق نجاحات تسعده، لربما وجد الطاقة الإيجابية المسيطرة على تفكيره أضعاف الطاقة السلبية.
السؤال الثانى الخاص بمن الذين أنت محاط بهم، سؤال مهم. «الجحيم هم الآخرون» عبارة من عبارات جان بول سارتر الخالدة. لا أقول لك اعتزل الناس، فهذا عمل غير إنسانى وفقاً للقول الشعبى الشهير: «جنة من غير ناس ولا تنداس». ولكن تخير من إن جلست معهم أو استمعت إليهم أو قرأت لهم ابتسمت وشعرت بالبهجة والرغبة فى «حياة غنية بمادة الحياة، أى الأمل والعمل». والتعبير للأستاذ العقاد.
تجنب أن تحيط نفسك بمن يجلبون لك أخباراً سيئة وأفكاراً تعيسة لا تستطيع أن تدفعها أو أن تغيرها. وفى الزمن الذى نعيش فيه تجنب من يدخلون يومك ليسمموه بأفكارهم الانتحارية ورغبتهم الانتقامية. لا تسخر منهم ولا تنل من مشاعرهم، حتى لا تكون أنت سبباً فى تسميم حياتهم، ولكن كفَّ أذاهم عنك. علينا أن نتعلم عبارة شهيرة فى الغرب: «أرجوك لا تحدثنى فى هذا الموضوع الآن». ولو كنت مضطراً أن تسمع منهم هذه الأفكار المسمومة فاعتبرهم «يعطسون» وقل لهم «يرحمكم الله». والآية الكريمة بالغة الدلالة فى هذا المقام: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ». واللغو هو الكلام الفاضى الذى لا يفيد، وفى حالتنا ما يضر ولا يفيد أكثر كثيراً، لأن طاقة الغضب والاحتقان تملأ الزمان والمكان.
ونحمد الله أن الذين اخترعوا أدوات التواصل الاجتماعى، اخترعوا معها «فرامل» التعاسة القادمة من أشخاص موتورين أو متوترين أكثر من اللازم. أو لو تستطيع، كما فى حالتى، أن تتجنبها فافعل وأنت الرابح وقتاً تستطيع أن تستثمره فى ما هو أفيد.
ولكن لا بد أن يكون واضحاً أن ما سبق ينطبق فقط على السوء والضرر والأفكار السلبية التى لا تستطيع ردها أو دفعها أو تغييرها، ولكن ما تستطيع دفعه ورده وتغييره فعليك أن تفعل ما تستطيع حياله. هذا اختبار أنت موضوع فيه دينياً وأخلاقياً، والأولى أن تجعل جهدك خالصاً لوجه ربك ولا تجاهر ولا تتاجر به.
السؤال الثالث، وهو عن مساعدتنا أو إسعادنا للآخرين بشكل دورى. وهذه نعمة من الله لا يعرفها إلا من توافرت لديه، نعمة العطاء بعد العطاء. الله يعطينا الكثير، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان. من يستشعر التعاسة بحق، فعليه أن يقفز منها إلى بحر العطاء، ساعد شخصاً ما فى أمر ما، ولاسيما إن كنت لا تعرفه ولا تريد منه جزاءً ولا شكوراً. اذهب إلى دار أيتام وخذ معك بعضاً من اللعب والهدايا وأعطهم بعضاً من وقتك بقدر ما تستطيع. اذهب إلى مستشفى وتبرع بدمك (لكن تأكد أنهم لن يبيعوه)، افعل خيراً لأحد وارمه البحر.
لا بد أن أعترف أننى كلما التقيت بمصريين فى محاضرات عامة أو مغلقة أجد نفسى أكثر قلقاً على مستقبل هذه البلد. وأعتقد أن الكثير لا بد أن يُفعل كى تعود لنا فطرتنا التى تم العبث بمكوناتها الأصيلة بفعل أسلحة الخداع والزيف الاستراتيجى التى يمارسها كثيرون. ربما أحكى لكم فى مقال قادم عن زيارتى لإحدى المدارس ولقائى مع الطلاب وبعض أولياء الأمور والمدرسين.
فقط سأقول لكم عبارة واحدة، قد تفسر لكم الكثير مما شاهدت: المنتج النهائى الذى نراه فى سلوك الإنسان المصرى ليس بعيداً عن نوعية المكونات التربوية والخبرات الحياتية التى يمر بها الطفل انتهاءً باستقلاله عن أسرته.
لنا الله، وغداً يوم جديد.
المصدر : جريدة الوطن