أيمن الجندى يكتب | ادخلوا البيت أول العام

د.-أيمن-الجندى

ومثلما يحدث كل عام، بيتٌ اكتشفناه على أطراف القرية. حَدَثٌ يبدو وكأنه يتكرر. البيت مبنى بطريقة غريبة. اثنتا عشرة حجرة مرتبة بطريقة طولية، الواحدة تلو الأخرى. لم يكن الباب موصدا، ولم يكن مفتوحا أيضا، وإنما موارب. لكننا هبنا دخوله، ووقفنا نحن سكان العشيرة المنعزلة نتأمله: سقفه وجدرانه.

حتى الأمس هذا البيت لم يكن موجودا هناك. اجتمعنا هناك على غير اتفاق. فى قريتنا البعيدة المنعزلة عن العالم، هناك فى سقف الوجود، حيث لا شىء يحدُّنا سوى الغيوم البيضاء والقبة السماوية الزرقاء المرصعة بالنجوم.

جاء الرجال والنساء والصبيان. جاء الكهول والأطفال. جاء الشعراء والعشاق والكهان. كلنا اجتمعنا حول البيت نتأمله. فى البدء ثار سؤال فلسفى عميق جدا: هل تم بناء هذا البيت تحت أستار الليل فى ظلمة الخفاء، لنفاجأ به فى الصباح التالى مكتمل البناء، أم أنه كان موجودا منذ البداية ثم كُشف الستار عنه؟

سؤال عويص كما تلاحظون، ونحن، سكان القرية الساكنة فى قمة العالم، نحب الأسئلة الفلسفية العميقة. تقدم الفلاسفة والحكماء، والكهان والشعراء، وكل واحد يمسك ورقة عريضة، يبدأ بديباجة طويلة، ومقدمة مستفيضة، بعدها يبدأ فى عرض حجته، ونحن جالسون متحلقون حول البيت، نناقش حجته، ونصفق لبلاغته، ونستحسن أشعاره. بعدها يبدأ شاعر فى إلقاء قصيدته، وأديب فى رواية قصته، ومطرب فى إنشاد أغنيته. حتى يسحب النهار آخر ذيوله.

على هذا النحو أنفقنا أياماً طويلة. أياماً امتدت إلى أسابيع وشهور. بعدها انتقلنا إلى السؤال التالى: لماذا يتكون البيت من اثنتى عشرة غرفة، مرتبة على شكل طولى؟ لماذا لم يكن مربعا أو مستطيلا مثلا؟ أم طوابق بعضها فوق بعض؟ وما هو الموجود فى الغرفة الأولى؟ وما الموجود فى الغرفة الثانية؟ والثالثة؟ والرابعة… والأخيرة؟

بدأنا نتساءل ونتجادل ونتقاتل. ونوشوش الودع. لم نلحظ فى غمرة اهتمامنا بالأسئلة أن الغرف راحت تتناقص، والبيت ينكمش. وكانت هذه معضلة جديدة تستحق أن نطرح الأسئلة عنها ونحاول أن نستكنه دواخلها. لماذا؟ حقا لماذا؟ كيف يتلاشى الموجود ويصبح غير موجود؟ وإلى أين يذهب؟.. أسئلة كما ترون تستحق أن نفقد آخر غرفة فى البيت من أجل الوصول إليها.

واختفى البيت وظهر بيت آخر. لكن الغموض لم ينته والأسئلة مازالت تُطرح. وفجأة وبينما نحن فى غمرة انشغالنا فوجئنا بشاب وشابة يدخلان غرفة ثم لا يخرجان منها. راحا يتبادلان القبل ويضحكان بصوت مرتفع ويرتشفان من كؤوس السعادة. نظر بعضنا إلى بعض وقلنا فلنحاول أن نجرب. لكن صدمنا من لون الشعر الأبيض والجلد المجعد. وراعنا أن النهار يمضى وغرف البيوت تتلاشى، بيتا من بعد بيت. ثم قيل لنا إن هذا الجب العميق هو البيت الوحيد المتاح لنا. وهو للأسف ذو غرفة واحدة فى بدروم تحت الأرض.

ونظر بعضنا إلى بعض وشرعنا نتذكر البيوت التى أضعناها والغرف التى تركناها، وشعرنا الأسود الذى غادرنا، وحناجرنا التى لم نستخدمها فى الضحك، وشرعنا نبكى

المصدر:المصرى اليوم

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *