د. أيمن الجندى يكتب| العجوزان

د.-أيمن-الجندى1

ليوم أحكى عن تلك التجربة الروحية النادرة التى مررت بها. كنتُ فى الفندق الذى اعتدت النزول به فى الإسكندرية، واحدٌ من الفنادق القديمة التى تعود إلى أربعينيات القرن الماضى. أيام السقف المرتفع والحجرات المتسعة. والمنمنمات المنقوشة على شرفته توحى بالعراقة والتاريخ.

جلست فى انتظار الغذاء فى مطعم الفندق، ووقع نظرى عرضاً على عجوزين، رجل وامرأة، يجلسان فى صمت على إحدى الموائد الخالية. كانا متشابهين وكأنهما توأم. ذابلَين كأنهما الشتاء.

تبخرت بهجتى بالنظر إليهما. وعادت لى الأفكار التى طالما حاولت الفرار منها. معركتنا مع الزمن، المحسومة النتيجة سلفاً. منحة الشباب التى لا نفطن إليها فى الوقت المناسب، باعتبارها حقيقة دائمة، ثم سرعان ما تصدمنا الحقيقة عندما نكبر كالآخرين.

جاء الطعام ولكنى كنت قد فقدت شهيتى. تناولت بضع لقيمات ثم نهضتُ ملقياً نظرة على العجوزين الجالسين فى استسلام. كم يبلغ عمرهما؟ على الأرجح هما فى التسعينيات.

قاومت الفكرة المتسلطة على ذهنى. خرجت. تنزهت. دخلت السينما لكن ظلت صورة العجوزين الذابلين تطاردنى كمصير قادم مظلم.

فى الصباح التالى شاهدتهما فى لوبى الفندق. كان من الممكن أن ينتهى الأمر عند هذا الحد لولا عامل الفندق الذى بادرنى بابتسامة دافئة. انتهزت الفرصة وسألته عن العجوزين فى فضول، ولكنه نظر لى فى غير فهم. أشرت بأصابعى نحوهما لكنى وجدت المقعد خالياً. أكد لى العامل فى لهجة قاطعة أنه لا يوجد أحد بهذه الأوصاف. تحيرت. شغلنى الأمر لكنى لم أكن مستعداً لقبول فكرة أننى أهلوس. فى المساء تسكعت بجوار الصور القديمة المرفوعة على جدران الفندق. شاهدت الشعور الشقراء والابتسامات السعيدة. كلها بالأبيض والأسود. ثم تجمدت عيناى على رجل وامرأة فى مقتبل الشباب.

كيف عرفت أنهما هما العجوزان اللذان رأيتهما فى المطعم! شعور كالإلهام خالطنى فى تلك اللحظة. عدت أدقق فى الصورة. المرأة حسناء مغرية، والرجل يضج بالوسامة والشباب. وقرأت على أطراف الصورة أنها اُلتقطت عام ١٩٤٢.

سبعون عاماً مرت على تلك الصورة. كان الرجل فى الثلاثين تقريباً وزوجته الحسناء فى الخامسة والعشرين. وتذكرت ما آل إليهما الحال وكيف أعادت التجاعيد تشكيل وجهيهما فارتجفت من سطوة الزمن.

ولكن العامل يؤكد أنه لا يوجد نزلاء عجائز فى الفندق الآن. فهل عادا دون أن يدرى أم أنهما ظلا دائماً هناك؟ جاءنى الفهم كصاعقة. أيكون لنا وجود دائم فى كل مكان قد نزلناه. نغادره بأجسادنا ولكن يبقى جزء منا ينمو ويكبر وتجور عليه عاديات الزمن! فى البيوت التى سكناها! فى المنتزهات التى زرناها! فى الفنادق التى نزلناها! أترانى أشاهدهما بعد أن ماتا أو ظلا حيَّيْن فى موطنهما الأصلى! وهل يبقى جزء منى فى هذا الفندق؟ يبقى بعد أن أرحل! ويكبر! ولا يشاهده أحد إلا فى تجربة روحية نادرة مجهولة الأسباب.

وكأنما أرادت الأقدار أن ترأف بى وتهدينى اليقين. إذا بالعامل يقترب منى وكأنه تذكر شيئاً، ويقول لى: «على فكرة الوالد كان هنا الأسبوع الماضى. وهو يشبهك جداً». هززت رأسى شاكراً ولزمت الصمت. لم أرد أن أخبره أن والدى مات منذ سنوات عديدة. وأنه لم يكن يشبهنى بحال. وأن ما رآه كان فى الحقيقة أنا، ولكن بعد سنوات طويلة، حينما يكبر الشىء الذى أتركه هنا، وأنا أحمل حقائبى وأرحل.

المصدر جريدة المصري اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *