فهمى هويدى يكتب | الذين لا بواكى لهم
أبرزت الصحف المصرية يوم الجمعة الماضى (17/1) ما وصفته بأنه فضيحة أمريكية جديدة، أعلن عنها سلاح مشاة البحرية (المارينز) وخلاصتها ان أحد المواقع الإلكترونية نشر مجموعة من الصور لمقاتلين عراقيين تم إحراق جثثهم بواسطة جنود أمريكيين، وقد ظهر فيها أحدهم وهو يلقى سائلا قابلا للاشتعال على تلك الجثث. وفى تقرير الفضيحة المنشورة ان الصور التقطت فى مدينة الفلوجة العراقية فى عام 2004 وان وزارة الدفاع الأمريكية اهتمت بالامر وطلبت التحقيق فيه، وتحديد هوية الجنود المتورطين فى العملية.أثار انتباهى اهتمام الصحف المصرية بالخبر، ولم استبعد ان يكون الدافع إلى إبرازه هو استخدام الفضيحة فى التنديد بالإدارة الأمريكية لأسباب سياسية لها علاقة بالحملة الإعلامية المصرية عليها التى ذهبت إلى حد اتهامها بالتآمر لاغتيال الفريق عبدالفتاح السيسى، بعدما انكشف ــ فى الإعلام المصرى وحده! ــ سر العلاقة بين الرئيس أوباما وبين التنظيم الدولى للإخوان. لم يفاجئنى إحراق المارينز لجثث المارينز العراقيين، لأن الولايات المتحدة لم تقم كدولة إلا بعد إبادة الهنود الحمر سكانها الأصليين، وما فعلوه مع عناصر المقاومة العراقية هو «عينة» بسيطة تستدعى إلى الأذهان ما فعلوه بحق الهنود الحمر، وجرى توثيقه فيما بعد فى دراسات عدة، سبق أن أشرت إلى بعضها. خصوصا كتاب منير العكش «أمريكا والابادات الجماعية».الاهتمام بالفضيحة الأمريكية التى وقعت منذ نحو عشر سنوات، ذكرنى بتجاهل الإعلام المصرى لفضيحة قتل 37 مواطنا بريئا اختناقا منذ نحو ستة أشهر، حين نقلوا فى سيارة محكمة الإغلاق إلى سجن أبوزعبل وتركوا طوال النهار أمام بوابة السجن، وحين احتجوا ألقيت عليهم قنابل الغاز المسيلة للدموع التى أدت إلى قتلهم. فى حين نجا ثمانية فقط من زملائهم. وهى الجريمة التى اتهم أربعة ضباط شرطة بالمسئولية عن ارتكابها ونظرتها إحدى محاكم الجنح فى شهر نوفمبر الماضى، وحين رد المحامون قاضيها لتحيزه فإنه تنحى عن نظرها لاحقا «لاستشعاره الحرج».لم تكن الفضيحة ممثلة فى قتل ذلك العدد من الأشخاص فحسب، وإنما كانت فى اعتبار الجريمة مجرد جنحة يعاقب مرتكبها بالسجن ثلاث سنوات أو سبع سنوات كحد أقصى. علما بأن طلاب جامعة الأزهر حين حاولوا اقتحام باب مدير الجامعة فإن فعلهم اعتبر جناية، وحكمت محكمة الجنايات على كل واحد منهم بالسجن 17 سنة. ولا وجه للمقارنة لأن الضباط المتهمين أودعوا مكانا غير معلوم يرجح أن يكون مستشفى الشرطة، بما يعنى انهم لا يعاملون كغيرهم من المتهمين، وانما يظلون تحت رعاية وزارتهم وزملائهم، وثمة لغط فى أوساط المحامين حول التلاعب فى أوراق التحقيق الذى من شأنه ان يؤدى إلى تبرئة المتهمين وإخلاء سبيلهم فى نهاية المطاف، كما حدث فى أغلب القضايا التى اتهمت فيها الشرطة بقتل الثوار المتظاهرين.لا غرابة والأمر كذلك فى ان تتجاهل وسائل الإعلام قضية السبعة والثلاثين الذين قتلوا اختناقا. بل ربما بدا ان أولئك القتلى أفضل حالا من غيرهم، ممن لم يعد يذكرهم أحد أيضا، ولم تخضع عملية قتلهم لأى تحقيق ولم يشر إلى اسمائهم فى أى قضية. وهؤلاء الذين لا ذكر لهم ولا بواكى لهم عددهم 2665 شخصا كما ذكر موقع «ويكى ثورة» الذى وثق اسماءهم (مصادر الإخوان تتحدث عن أكثر من ثلاثة آلاف شخص) وهم ضحايا فض الاعتصامات والتظاهرات التى حدثت بعد عزل الدكتور محمد مرسى.هذا العدد الكبير من الضحايا يفوق أعداد الذين قتلوا جراء استخدام النظام السورى للكيماوى فى قصف الغوطة. الذين قدرت مصادر المعارضة عددهم بنحو 1466 شخصا وذكرت المخابرات الأمريكية ان عددهم 1429 قتيلا. وقد تصادف ان وقعت حادثة قتل معتقلى أبوزعبل فى نفس شهر أغسطس الذى تم فيه استخدام الكيماوى فى قتل السوريين. وهو ما أحدث حينذاك دويا عالميا وصل صداه إلى مجلس الأمن وطرح مسألة التدخل العسكرى لإسقاط النظام السورى. أما ما حدث فى مصر فلم يرد له أى ذكر، ليس فقط من جانب إعلام السلطة ومصادرها، وإنما أيضا من جانب أغلب منظمات حقوق الإنسان.المدهش فى الأمر ان المجتمع قبل هذا الوضع وأقره. وثمة شرائح اعتبرت أن الذين قتلوا يستحقون ذلك المصير، تأثرا بالخطاب الإعلامى الذى لم ير فى الإبادة الجسدية الجماعية إجراء مستغربا أو مشينا. بل غدا مجرد الإشارة إليهم مسوغا لإطلاق تهمة الأخونة والتحيز للإرهاب، فى إلغاء كامل لكل ما هو إنسانى وأخلاقى وفى استحضار مفجع لما هو سياسى وأيديولوجى. وخلط آخرون الأوراق حين اعتبروا ان قتل ذلك العدد الضخم من المعتصمين أو المتظاهرين من قبيل الثأر لقتل الجنود المصريين فى سيناء. وكأن الجريمة التى ارتكبها الإرهابيون فى سيناء ردت عليها السلطة بقتل ذلك العدد فى رابعة والنهضة وفى أماكن أخرى. وكأننا ينبغى أن نحزن لقتل فئة من المصريين، فى حين نشمت فى قتل آخرين ممن ارتأت السياسة ألا حق لهم فى الحياة.إننا بصدد سلسلة من الفضائح التى سيذكرها التاريخ فى سجلاته الدموية، وفى هذه الحالة فإن الادانة التاريخية لن تشمل الذين قتلوا وارتكبوا الجرم فقط، لكنها ستلحق أيضا بكل الذين صمتوا أو برروا ما جرى وبخلوا بمجرد الإشارة إليهم بكلمة حق أو بدمعة حزن.